قبل أكثر من 7 عقود، أطاح تنظيم الضباط الأحرار، بالتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين، بحكم الملك فاروق لتتأسس الجمهورية في مصر لكن «تحالف الضرورة» لم يدم طويلًا فما هي إلا فترة وجيزة حتى وقع الصدام بين الضباط والجماعة والذي كان له في ما بعد دورًا في صياغة مستقبل البلاد لسنوات طويلة تالية.
وفي ثنايا الخلافات التي نشبت بين قيادة «الثورة»، كما سُميت بعد ذلك، وبين جماعة الإخوان راجت وانتشرت روايات عديدة حول أدوار لعبها قادة بالإخوان على رأسهم عبد الرحمن السندي، قائد التنظيم الخاص أو الجهاز السري للجماعة حتى عام 1953، في إضعاف الجماعة وتمكين نظام الضباط الأحرار من السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد بشكل كامل.
وحظيت تلك الروايات بانتشار لافت خصوصًا بعد الصدام الأكبر الذي حصل بين الإخوان وعبد الناصر، عام 1965، فقيادات الإخوان المثقلين بحمل تجربتها أو محنتها، كما تسميها، في الحقبة الناصرية أعادوا صياغة روايات تاريخية لا تتعلق فقط بالصراع مع النظام الجمهوري الناصري بل تمتد إلى أبعد من ذلك وتحديدًا إلى عام 1948 الذي شهد الصدام مع النظام الملكي واغتيال رئيس الوزراء الأسبق محمود فهمي النقراشي ردًا على قراره بحل الجماعة ونسبوها لخصومهم محاولين بذلك تبرئة ساحتهم من بعض الأخطاء التي شهدتها تلك الفترات.
وركزت تلك الروايات في الغالب على اتهام عبد الرحمن السندي، قائد التنظيم الخاص، بأنه «أمير الدم» الذي خرج عن توجيهات مؤسس الجماعة ومرشدها حسن البنا ونفذ عمليات اغتيال دون توجيه منه وحاول نسف مكتب النائب العام، عام 1948، ثم بعد ذلك تعاون مع الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر من أجل مصالحه الشخصية وساعده في ضرب الجماعة وشق صفوفها عندما توترت العلاقة بين الإخوان ونظام الضباط الأحرار عام 1953 وما تلاها.
ولم تنل أي شخصية من الشخصيات الإخوانية، على مدار تاريخ الجماعة الذي يقترب من الـ100 عام، ما ناله عبد الرحمن السندي من التشويه والاتهام بخيانة الجماعة حتى أنه باتت صورته في المخيلة الإخوانية العامة كصورة «يهوذا الإسخريوطي» الخائن الذي أسلم المسيح عيسى بن مريم لأعداءه.
وفي الحقيقة، فإن اتهام عبد الرحمن السندي بالمسؤولية عن تلك الأحداث يحقق مصالح تنظيمية للجماعة أهمها التنصل من المسؤولية عن بعض الأحداث المثيرة للجدل التي تورطت فيها غير أن التدقيق في الروايات التاريخية التي أوردها قادة الإخوان وأيضًا قادة الضباط الأحرار في مذكراتهم وشهادتهم التي كُتبت ونُشرت بعد ذلك، ينفي عن «السندي» غالبية الاتهامات التي يُرمى بها، ويفتح بابًا لإعادة النظر في الروايات الشهيرة عن تلك الفترة.
وترجع جذور العلاقة بين الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر وجماعة الإخوان إلى العام 1942، حين دعا اليوزباشي (تعادل رتبة النقيب حاليا) عبد المنعم عبد الرؤوف اليوزباشي جمال عبد الناصر لحضور درس الثلاثاء الذي كان يلقيه مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا بالمركز العام للجماعة، بحسب ما ذكر الأول في مذكراته المعنونة بـ«أرغمت فاروق على التنازل على العرش.. مذكرات عبد المنعم عبد الرؤوف».
وبعد نحو عامين، وتحديدًا في بداية 1944، تشكلت أول خلية لضباط التنظيم الخاص لجماعة الإخوان داخل الجيش المصري وضمت 7 من الضباط هم: عبد المنعم عبد الرؤوف، وجمال عبد الناصر، والملازم أول- آنذاك- كمال الدين حسين، والملازم أول خالد محيي الدين، عضوا مجلس قيادة الثورة لاحقا، والملازم أول سعد توفيق، والملازم أول حسين حمودة وزميله صلاح الدين خليفة، وهو ما ذكره عبد الرؤوف في مذكراته وكذلك حسين حمودة في مذكراته «أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمون».
وكانت هذه الخلية تخضع لإشراف الصاغ (رائد حاليًا) محمود لبيب مؤسس خلية/قسم الضباط بالتنظيم الخاص لجماعة الإخوان وعبد الرحمن السندي قائد التنظيم، وأقسم أفراد الخلية بيعة الولاء لجماعة الإخوان ومرشدها حسن البنا على المصحف والمسدس، كما كان التقليد المعمول به في التنظيم الخاص عام 1946، بحسب عبد الرؤوف وحمودة.
وعملت تلك الخلية على تجنيد ضباط الجيش في التنظيم الخاص ونجحت في ضم مجموعة منهم في السنوات التالية ومن بينهم عبد الحكيم عامر (المشير لاحقًا)، وكمال الدين حسين، عضو مجلس قيادة الثورة لاحقًا، وأبو المكارم عبد الحي وآخرين، وكذلك لعبت دورًا هامًا في أعضاء التنظيم الخاص المدنيين على استخدام الأسلحة وعلى المهارات التكتيكية نظرًا للخبرة العسكرية لدى أعضائها الضباط.
وفي أحد اجتماعات خلية الضباط، أوفد عبد الرحمن السندي لهم شابًا عرف نفسه بـ«حجازي» ليدربهم على استخدام «المسدس» - هو أحمد حجازي مسؤول شعبة التنظيم بالعباسية كما يذكر أحمد عادل كمال في مذكراته «النقط فوق الحروف: الإخوان المسلمون والنظام الخاص» - ووقتها سأله «الضباط» التوقف عن الشرح وطلبوا لقاءً بعبد الرحمن السندي الذي اعتذر عن إرسال حجازي لهم وأخبرهم أنه كان يفترض أن يُدرب مجموعة من المدنيين وأنه أعطاه عنوانهم بالخطأ والسهو، ومن ثم اتفقوا معًا على بدء تدريب كوادر التنظيم في معسكراته السرية بجبل المقطم وصحراء حلوان وصحراء محافظة الشرقية وغيرها.
ولعل الواقعة السابقة، التي أوردها حسين حمودة في مذكراته، كانت سببًا في اعتقاد بعض قيادات الإخوان اللاحقين أن الجماعة لم تتعامل مع عبد الناصر ومجموعة الضباط بما يستحقون ولذا غادروا الجماعة، على حد تعبير عصام تليمة أحد قيادات الإخوان ومدير مكتب الدكتور يوسف القرضاوي سابقًا، في فيديو نشره على قناته عبر موقع يوتيوب، غير أن الحقيقة بخلاف ذلك تمامًا.
ومن الجدير بالذكر أن الرئيس جمال عبد الناصر، إبان وجوده في التنظيم الخاص لجماعة الإخوان، كان منخرطًا في تنظيمات أخرى إذ انتقل بين أكثر من حزب وجماعة وتنظيم منها حزب مصر الفتاة، والحركة الديموقراطية للتحرر الوطني (حدتو) (شيوعية) وكذلك اتصل بحزب الوفد وغيره، وذلك يرجع لاعتبارات منها أن عبد الناصر أراد أن يتعرف عن قرب عن الفواعل المنخرطين في العمل الوطني وأن يجمع في يديه كل الخيوط وهو ما ذكره القائم مقام (عقيد حاليا) يوسف صديق أحد أبرز الضباط الأحرار في أوراقه (أوراق يوسف صديق).
وفي عام 1948، اندلعت حرب فلسطين ودخلت قوات الجيش المصري والمتطوعين وكذلك كتائب الإخوان إلى فلسطين للمشاركة في التصدي للعصابات الصهيونية، وشارك كثيرين من الضباط المرتبطين بالتنظيم الخاص للإخوان في هذه الحرب ومن بينهم جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وعبد المنعم عبد الرؤوف وغيرهم.
غير أن النيران التي أشعلتها حرب فلسطين عُدت بمثابة الشرارة التي أشعلت عرش الملك القابع في القاهرة وأطاحت به، لاحقًا، إلى غير رجعة، فقد كانت الهزيمة التي مُني بها الجيش المصري في تلك الحرب وانكشاف وقائع الفساد والإفساد المتعمد للمؤسسة العسكرية المصرية سببًا في تسريع الحراك الداخلي الناقم على الملك داخل الجيش، وهو ما تمخض عنه إنشاء تنظيم الضباط الأحرار، وفق ما ذكره أحمد حمروش، عضو تنظيم الضباط الأحرار وأحد أبرز مؤرخي ثورة يوليو في الجزء الأول من كتابه «ثورة 23 يوليو».
وذهب أحمد حمروش في كتابه إلى أن عبد الناصر وكمال الدين حسين تركا جماعة الإخوان في تلك الفترة، وخرجا مع مجموعة من الضباط الناقمين على النظام الملكي ممن انخرطوا في تنظيم الضباط الأحرار الذي تشكلت لجنته التأسيسية، رسميًا، في 12 فبراير 1950، وضمت (جمال عبد الناصر، وعبد المنعم عبد الرؤوف، وحسن إبراهيم، وكمال الدين حسين، وخالد محيي الدين)، وجميع هؤلاء الضباط ممن انتموا إلى الإخوان سابقًا، كما نوه حمروش وغيره.
وفي الواقع، فإن تفكير عبد الناصر لم يكن قد ترك الإخوان بالكلية في تلك الفترة لكنه رأى أنه استنفذ أغراضه منهم وآن بالنسبة له أن يتجاوز فكرة الارتباط العضوي بالجماعة، لا سيما بعد مقتل مؤسس الإخوان في 12 فبراير 1949، وهذا لم يتم إلا بعد أن حصل على المعلومات الكاملة عن مجموعة العسكريين في التنظيم الخاص للإخوان من المشرف عليهم الصاغ محمود لبيب قبيل وفاة الأخير في 1950، وهو ما أقر به عبد المنعم عبد الرؤوف في مذكراته ومحمود الصباغ، عضو مجلس قيادة التنظيم الخاص، في كتابه «التصويب الأمين لما نشره بعض القادة السابقين عن التنظيم الخاص للإخوان المسلمين».
ورأى عبد الناصر أن الإخوان منغلقة على ذاتها وتتشدد في اختيار الضباط الذين يجري اختيارهم للانضمام للتنظيم الخاص وتشترط التزامهم الديني بطريقة معينة، وهو ما لا يتناسب مع فكرة توسيع نشاط التنظيم بحيث يكون قادرًا على القيام بالانقلاب اللازم للإطاحة بالملك فاروق.
وفضلًا عن رؤيته السابقة، فإن البكباشي (مقدم حاليا) جمال عبد الناصر جرى استدعاءه، في 25 مايو 1949،عقب عودته من حرب فلسطين التي حوصر فيها مع قواته في الفالوجا بقطاع غزة من قبل رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي- اتُهم باغتيال مرشد الإخوان حسن البنا وحاكمه نظام الضباط الأحرار ثم أطلق سراحه بعد الصدام مع الإخوان- وتوجيه الاتهام له بأنه منتمي للإخوان وآثر رئيس الوزراء أن لا يقبض عليه لكنه طالبه بأن لا يبقى على اتصاله بالإخوان، ولذا فإنه اقتنع بضرورة الإسراع في تجنيد الضباط ذوي الميول الوطنية وقيادتهم لقلب نظام الحكم القائم وقتها.
وبالفعل تناقش عبد الناصر مع عبد المنعم عبد الرؤوف بشأن هذه الفكرة واحتكما فيها إلى الفريق عزيز المصري، الملقب بـ«أبو الثوار»، وطلب المصري منهما أن يعملا معًا من أجل طرد الاحتلال الإنجليزي والإطاحة بالملك وألا يختلف حتى لا تتشتت جهودهما.
وبالتوازي مع تلك النقاشات، زار جمال عبد الناصر، أكثر من مرة، عبد الرحمن السندي بمحبسه في مستشفى قصر العيني، حيث نقل إليها الأخير لظروفه المرضية خلال قضائه عقوبة السجن عامين لإدانته مع مجلس قيادة التنظيم في قضية السيارة الجيب الشهيرة منذ نوفمبر 1948، وتناقشا في توسيع نطاق التنظيم ليضم الضباط من غير ذوي السمت أو الاتجاه الإسلامي، لكن الأخير أبلغه بأنه لا يستطيع أن يتخذ قرارًا في هذه القضية ولابد من عرضها على المرشد العام للإخوان وهو حسن الهضيبي الذي تولى منصبه في عام 1951.
وعقب انتهاء مدة عقوبة السندي وإطلاق سراحه، اصطحب معه جمال عبد الناصر لمرشد الإخوان حسن الهضيبي وعرضا عليه مقترح عبد الناصر، فوافق المرشد عليه بحيث يصبح تنظيم الضباط الأحرار تنظيمًا وطنيًا غير إسلامي صديقًا لجماعة الإخوان، بتعبير محمود الصباغ في كتابه «التصويب الأمين».
وجرى الاتفاق على أن يكون اللواء صلاح أبو شادي، ضابط الشرطة ومسؤول قسم الوحدات بالتنظيم العام وهو قسم ضم ضباط البوليس (الشرطة) وصف ضباط الجيش وهو بخلاف التنظيم الخاص، مسؤول الاتصال بين تنظيم الضباط الأحرار وجماعة الإخوان، وفقًا لما قاله محمود الصباغ في «التصويب الأمين»، وصلاح أبو شادي في مذكراته المعنونة بـ«حصاد العمر .. صفحات من التاريخ».
وألمح صلاح أبو شادي إلى وجود علاقة بينه وبين جمال عبد الناصر منذ عام 1950 حينما التقيا بعد وفاة الصاغ محمود لبيب، مقرًا بأنه لم يدر بخاطره أن يتحول عبد الناصر بالطريقة التي تحول لها أو أن استقلال تنظيم الضباط الأحرار سيجعل ولاءه لجمال عبد الناصر بشكل كامل، على حد قوله في «حصاد العمر».
وحين قرر جمال عبد الناصر والضباط الأحرار القيام بحركتهم، اجتمع عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين، في 21 يوليو 1952، بثلاثة من قيادات الإخوان وهم حسن العشماوي وصالح أبو رقيق وصلاح أبو شادي في منزل الأخير، وأكد الضباط ضرورة الإسراع بتنفيذ الانقلاب، وفقًا ما ورد في «حصاد العمر» (ص 177-179).
وأثناء الاجتماع، حضر إلى منزل صلاح أبو شادي عبد الرحمن السندي وعبد المنعم عبد الرؤوف، الذي لم يكن له سابق بمعرفة بمسؤول قسم الوحدات، وأبو المكارم عبد الحي الذي خلف محمود لبيب في قيادة مجموعة العسكريين في التنظيم الخاص، وحسين كمال الدين مسؤول منطقة القاهرة بالتنظيم العام للإخوان، فأخفى أبو شادي عليهم وجود عبد الناصر ورفاقه في الغرفة المجاورة لهم وأبلغهم أن لديه «ضيوفًا».
وبناء على ذلك، غادر «السندي» ورفاقه سريعًا منزل صلاح أبو شادي بعد أن أبلغوه أن لديهم معلومات بشأن الانقلاب المزمع تنفيذه ضد الملك لكن أبو شادي أبلغهم بأن الجماعة لا معلومات لديه عن هذا الأمر وعليهم الالتزام بالتوجيهات التي تصدرها لهم قيادتهم في الجيش، وذلك بحسب ما ورد في مذكرات صلاح أبو شادي «حصاد العمر» وفي كتاب محمود الصباغ «التصويب الأمين» والأخير نقل رواية عبد الرحمن السندي بهذا الصدد.
وبهذه الطريقة أخفى صلاح أبو شادي - بناء على رغبة عبد الناصر والمجتمعين معه - عن قيادة التنظيم الخاص للإخوان وجود تنسيق مع الضباط الأحرار، رغم علم المرشد حسن الهضيبي بكواليس الاجتماعات إذ سافر له أبو شادي إلى الإسكندرية وأبلغه بالتطورات.
وأوضح عبد المنعم عبد الرؤوف في مذكراته (ص 70، 71) أنه اكتشف بعد فترة أن الضيوف الذين كانوا في منزل صلاح أبو شادي هم عبد الناصر ورفاقه، وأنه انصرف إلى منزله منتظر صدور توجيهات له من مكتب الإرشاد أو قيادة الجيش حتى سمع في صباح الـ23 من يوليو بيان قيام الثورة فذهب إلى مبنى قيادة الجيش بكوبري القبة والتقى كمال الدين حسين، أحد الضباط الأحرار عضو مجلس قيادة الثورة، بينما كان عبد الناصر نائمًا، وأبلغه حسين بأنه ستصدر له تعليمات من قيادة الجيش وعليه تنفيذها، وبالفعل جرى تكليفه بحصار قصر رأس التين في الإسكندرية حيث يقيم الملك وبالفعل توجه البكباشي عبد المنعم عبد الرؤوف إلى الإسكندرية يقود كتيبة مشاة وحاصر رأس التين ووقعت اشتباكات محدودة مع الحرس الملكي إلى أن قرر الملك فاروق النزول على طلبات الضباط الأحرار ومغادرة البلاد.
واعتبر محمود الصباغ في كتابه «التصويب الأمين لما نشره بعض القادة السابقين عن التنظيم الخاص للإخوان المسلمين» أن قيادة الضباط الأحرار، بالتعاون مع صلاح أبو شادي، غامرت بوضع ضباط الإخوان أمام فوهة المدفع دون مقابل إذ طلبت من عبد المنعم عبد الرؤوف حصار قصر رأس التين ومن أبو المكارم عبد الحي حصار قصر عابدين وبهذه الطريقة كان يمكن توريط الإخوان واتهامهم بالمسؤولية الكاملة عن الانقلاب على الملك حال فشل.
نجحت حركة الضباط الأحرار في الإطاحة بالملك، بيد أن الأمور لم تستقر لا داخل جماعة الإخوان ولا داخل مصر إذ عاشت البلاد على وقع تنافس وصراع داخل مجلس قيادة الثورة أشهرها الصراع بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر، وكذلك ظل الصراع على التحكم في التنظيم الخاص داخل الإخوان دائرًا بين مجموعة صلاح أبو شادي وحسين كمال الدين المدعومة من المرشد حسن الهضيبي وبين عبد الرحمن السندي والقيادة القديمة للتنظيم الخاص التي أدارت شؤونه منذ أيام مؤسس الجماعة حسن البنا.
وبنظرة مدققة إلى الصراعين يتبين أن كليهما ارتبطا بصورة أو بأخرى بالآخر وكلاهما أثر في الآخر وساهم في صياغة الواقع الجديد في الجمهورية الجديد الوليدة بعد ثورة يوليو، وهو ما ستوضحه السطور التالية.
فعلى صعيد جماعة الإخوان، بقيت مسألة موقف ووضع التنظيم الخاص تشغل اهتمام القيادة الجديدة التي كان من بينها من يطمح لقيادة التنظيم منذ أيام حسن البنا وهو صلاح أبو شادي الذي طلب من مؤسس الإخوان ضمه لمجلس قيادة التنظيم الخاص لكن عبد الرحمن السندي وصفه بغير المناسب، وظل هذا الاستبعاد في ذاكرة أبو شادي الذي وجد أن تغيير القيادة فرصة مناسبةً لتحقيق حلمه القديم وإبعاد غريمه السندي.
ولم يكن عبد الرحمن السندي متمسكًا بقيادة التنظيم الخاص أو رافضًا للتخلي عن منصبه على عكس الرواية السائدة بهذا الصدد، فمن الناحية الهيراركية بُني التنظيم على قاعدة تأسيسية كونه تابعًا لمرشد الإخوان وبالتالي فلا يتحرك أو يُقدم على أي فعل إلا بإذنه المباشر وهو ما التزم به الأول طوال فترة قيادته للتنظيم إلا في واقعة واحدة وهي اغتيال القاضي الخازندار التي نفذها 2 من كوادر التنظيم عام 1947 بأمر عبد الرحمن السندي الذي فهم، في لقاء له مع مؤسس الإخوان أنه حسن البنا يكلفه باغتيال الخازندار لأنه قال "لو كان ربنا يخلصنا منه"، بحسب ما ذكره محمود الصباغ في كتابه «حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين» الذي قدمه مرشد الإخوان الخامس وعضو مجلس قيادة التنظيم الخاص مصطفى مشهور.
وبعد عملية الاغتيال، شدد حسن البنا على عبد الرحمن السندي ألا يُقدم على أي تصرف دون فتوى محددة وواضحة منه، حسبما قال محمود الصباغ وأحمد عادل كمال في مذكراته «النقط فوق الحروف».
أما عملية اغتيال رئيس وزراء مصر محمود فهمي النقراشي وما تلاها من اشتباكات عرفت بقضية «الأوكار» وكذلك قضية محاولة نسف مكتب النائب العام فلم تكن بأوامر عبد الرحمن السندي، خلافًا للرواية الشهيرة بهذا الخصوص والروايات التي روجها صلاح أبو شادي ورفاقه من خصوم عبد الرحمن السندي، وذلك لأن قائد التنظيم الخاص وكذلك مجلس القيادة بالكامل كان محبوسًا على ذمة قضية «السيارة الجيب» التي كانت سببًا في صدور قرار حل جماعة الإخوان في 1948، وتعذر الاتصال به في تلك الفترة، وهو ما ورد في كتاب محمود الصباغ حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين الذي استعرض بالتفصيل قضية السيارة الجيب وملابساتها.
وبناءً على التراتبية الهيراركية، تولى سيد فايز (اغتيل في عام 1953) قيادة التنظيم الخاص، وأشرف على عملية اغتيال النقراشي باشا ومحاولة نسف/ حرق مكتب النائب العام، والحقيقة أن هذه العمليات تمت بدون استشارة مؤسس الإخوان لأن التنظيم الخاص قيادة اعتبر نفسه في حرب مع الحكومة التي تريد استئصال الإخوان كما أن حسن البنا كان محاصرًا بفعل الإجراءات التي اتخذتها ضده الحكومة وقتها، وهو ما أورده محمود الصباغ وأحمد عادل كمال وصلاح أبو شادي، في كتبهم، لكن الأخير زعم أن سيد فايز كان ينفذ تعليمات عبد الرحمن السندي وهو ما أنكره الصباغ وكمال بشدة.
ووفقًا لهذه الوقائع المروية، فإن عبد الرحمن السندي لم يكن المسؤول عن هذه العمليات بل إنه طلب مع مجلس قيادة التنظيم الخاص، عام 1951، التحقيق في الوقائع التي حدثت في عام 1948 ومحاسبته ورفاقه إن ثبت أنه أخطأ، وفقًا لمذكرة أرسلها محمود الصباغ باسمه إلى الهيئة التأسيسية (مجلس الشورى العام للإخوان حاليا)، وهي مذكرة مرفق نسخة منها في كتاب «التصويب الأمين».
ووفقًا لما ذكره صاحب «التصويب الأمين» فإن مرشد الإخوان الثاني شكل لجنة للتحقيق وبعد شهرين من العمل خلصت إلى الإبقاء على التنظيم كما أن الهضيبي اعتبر في رسالة نقلها وكيل الجماعة عبد القادر عودة لقيادة التنظيم الخاص بأن التنظيم الخاص هو تشكيل أساسي من تشكيلات الجماعة وأن إلغاءه بمثابة حذف حرف "الخاء" من كلمة الإخوان فتصبح بلا معنى، وهذا يُظهر أن الهضيبي لم يكن ضد وجود التنظيم الخاص من الأساس، ولذا بقيت القيادة القديمة تعمل كما هي رغم وجود تدخلات في بعض الجوانب من صلاح أبو شادي وحسين كمال الدين.
وفي ظل وجود الخلافات بين بعض قيادات الإخوان حول «التنظيم الخاص»، طلب جمال عبد الناصر من الجماعة، في مايو 1953، حل التنظيم الخاص مبررًا طلبه بأنه لم يعد لوجوده مبرر فحكومة الثورة تعهدت بإجلاء الاحتلال الإنجليزي، ووقعت اتفاقية الجلاء معه في 1952، وتعمل من أجل مصالح مصر وبالتالي فإن بقاء التنظيم يحمل بادرة سوء نية تجاه الثورة.
ولذا تشكلت لجنة لبحث مسألة بقاء التنظيم الخاص تضم القيادات الخمسة له ومعهم محمد خميس حميدة، نائب المرشد في تلك الفترة، وصالح عشماوي، عضو مكتب الإرشاد، ويوسف طلعت، مسؤول التنظيم الخاص بالإسماعيلية، وآخرين ومال قادة التنظيم لفكرة بقاءه لكن عبد القادر عودة وكيل الجماعة رفض بقاءه وطلب إنهاء ازدواجية التنظيم ودمج التنظيم الخاص في التنظيم العام.
وبفعل تعارض وجهات النظر حدثت مشادات بين قيادة التنظيم الخاص وعلى رأسها عبد الرحمن السندي وقيادة التنظيم العام وفي مقدمتها صلاح أبو شادي وحسين كمال الدين الذين حاولا التدخل في أعمال التنظيم الخاص وأشاعا أنه غير معتمد من المرشد العام، وهو ما تحدث عنه محمود الصباغ في كتابه «التصويب الأمين».
ونتيجة عدم حسم المرشد العام حسن الهضيبي لهذه الخلافات نقض عبد الرحمن السندي بيعته لحسن الهضيبي، ومن ثم جرى عزله من قيادة التنظيم الخاص وتكليف المهندس حلمي عبد المجيد الذي وصف، إبان مرحلة التأسيس الثاني للجماعة بأنه المرشد السري أو الخفي، بقيادة التنظيم لكنه اعتذر بعد فترة وجيزة، وكلف محمود الصباغ بقيادة التنظيم بشكل مؤقت.
وعقب استقالة عبد المجيد، أُجريت انتخابات داخلية في التنظيم الخاص لاختيار القيادة وأسفرت عن فوز محمود الصباغ، مصطفى مشهور، أحمد حسنين، أحمد زكي حسن - وهم القيادة القديمة للتنظيم بدون وجود السندي - ومحمد فرغلي وعبد العزيز كامل - وهما مستشاران لقيادة التنظيم القديمة - وحسين كمال الدين مسؤول القاهرة في النظام العام؛ وذلك وفقًا لرواية محمود الصباغ في «التصويب الأمين».
وبعدد مرور نحو 3 أشهر على الانتخابات، تخللها استقالة محمود الصباغ من عمله في التنظيم - طلب المرشد العام حسن الهضيبي عودة القيادة القديمة للتنظيم بما في ذلك عبد الرحمن السندي، وبالفعل عادت القيادة القديمة وقامت بكتابة دستور التنظيم الخاص ولائحته وعرضها على المرشد واجتمعت بمجموعات التنظيم المختلفة لعرضها عليها، لكن خلافًا جديدًا نشب بين القيادة القديمة وبين حسين كمال الدين بسبب تدخله في توجيهات مجموعات تابعة للتنظيم، وطلب "السندي" ورفاقه من "الهضيبي" وضع حد لتدخلات "كمال الدين" بيد أن المرشد رفض، فاستقالت القيادة كاملة وقبل المرشد العام للإخوان استقالتهم فورًا، كما أكد محمود الصباغ في "التصويب الأمين".
وبعد نحو أسبوعين من استقالة قيادة التنظيم الخاص، حدثت عملية اغتيال سيد فايز، مسؤول منطقة القاهرة بالتنظيم الخاص، بعد أن أرسل له شخص مجهول علبة حلوى مفخخة، وفي نفس يوم دفنه الذي حضرته قيادة التنظيم المستقيلة كما قال صاحب «التصويب الأمين»، أصدر المرشد العام قرارًا بفصل القيادة المستقيلة من الجماعة.
وزعم اللواء صلاح أبو شادي في مذكراته «حصاد العمر» تورط عبد الرحمن السندي في اغتيال سيد فايز الذي كان معارضًا له، بيد أن التدقيق في هذه الرواية ومراجعة الروايات الأخرى يثبت خطأها وتلفيقها، فعملية الاغتيال تمت بعد استقالة جماعية لقيادة التنظيم الخاص القديمة وإجماع مجموعات التنظيم على اختيار "يوسف طلعت" قائدًا له، وهو ما أكده محمود الصباغ في «التصويب الأمين»، وبالتالي فإن اغتيال سيد فايز لم يكن ليعطل عملية الانتقال القيادي داخل التنظيم الخاص كما أن «فايز» لم يكن هو الأكثر عداءً أو خلافًا مع عبد الرحمن السندي.
وعلاوة على ما سبق، فإن رواية تورط «السندي» في اغتيال سيد فايز لم ترد إلا على لسان صلاح أبو شادي، ونقلها عنه محمود عبد الحليم في الجزء الثالث من كتابه «الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ»، وهذه الرواية دحضتها التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة وبين اختلاقها محمود الصباغ في كتابه «التصويب الأمين»، وكذلك أحمد عادل كمال في مذكراته «النقط فوق الحروف»، مردفًا أن هناك من أوحى لشقيقة سيد فايز باتهامه (أحمد عادل كمال) بإيصال علبة الحلوى المفخخة إلى منزل شقيقها لكن عندما عُرض عليها في النيابة العامة نفت أن يكون هو نفس الشخص الذي سلمها «العلبة المفخخة» وأقرت بأن هناك من أوحى لها بهذه الفكرة دون أن تكشف هويته.
وللمفارقة فإن محمود عبد الحليم هو نفسه من رشح عبد الرحمن السندي لقيادة التنظيم الخاص بعد إنشاءه عام 1940 باعتباره «أخًا مخلصًا وقادرًا على قيادة التنظيم» - حسبما قال في الجزء الأول من كتابه «الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ» - لكن بعد أن اختلف معه، وصفه بأنه لم يكن كفأً لقيادة الجهاز السري للجماعة.
ومع كل هذه الأحداث تعقدت الأمور داخل قيادة الإخوان، وخرجت مجموعة أخرى على المرشد حسن الهضيبي وعلى رأسها صالح عشماوي والشيخ محمد الغزالي وآخرين، واحتل المعارضون للهضيبي مقر المركز العام للإخوان واقتحموا منزل المرشد وطلبوا منه الاستقالة من منصبه، ومع أن هذه المجموعة لم تكن موجهة من السندي إلا أن صلاح أبو شادي ادعى أنه هو من وجهها ودعمها بأنصاره في التنظيم الخاص، وبالطبع لم يؤكد أحد آخر هذه الواقعة بل نفاها أحمد عادل كمال، الذي لعب دورا للوساطة في إنهاء هذا الانقسام، ومحمود الصباغ.
وبحسم هذا القضية، انتهت قصة الصراع داخل قيادة التنظيم الخاص ولم يبق منها سوى المذكرات التي أرسلها محمود الصباغ إلى الهيئة التأسيسية للإخوان وإلى سيد قطب الذي كان يتولى رئاسة تحرير جريدة الإخوان المسلمين في تلك الفترة، وطلب منه نشرها في الجريدة، وهو ما اعتذر عنه قطب في حينه.
وبانتهاء الخلافات داخل الإخوان، والتي اتهم قادتها جمال عبد الناصر بالتورط فيها وتأليب تيارات الجماعة ضد بعضهم البعض، فرغت الجماعة لصراعها الأكبر مع نظام الثورة والذي أخذ جولات عدة، وبحلول نهاية عام 1953 بدأت حملة عبد الناصر لملاحقة كوادر الإخوان، بعد أن عزل محمد نجيب للمرة الثانية في نوفمبر من نفس العام، فألقي القبض على عبد المنعم عبد الرؤوف وأحيل لمحاكمة عسكرية هرب خلال جلسات إجرائها بعد أن استأذن مرشد الإخوان للقيام بهذا العمل.
وبدأت التنظيم الخاص يستعد لمواجهة مسلحة ضد نظام الثورة، تحت قيادة يوسف طلعت وبالتنسيق مع عبد الرؤوف الذي تولى تدريب كوادر التنظيم في معسكرات سرية، كما أشار الأخير في مذكراته، وفي فترة هروبه التقى بإبراهيم الطيب مسؤول منطقة القاهرة الجديد في التنظيم الخاص وعملا سويًا حتى عام 1954، حين كلف الأخير خلية إمبابة بتنفيذ محاولة الاغتيال المفترضة للرئيس جمال عبد الناصر بميدان المنشية في الإسكندرية والتي نفذها عضو التنظيم محمود عبد اللطيف.
وفي أعقاب تلك المحاولة، التي تبقى محل تساؤلات عدة، ألقت الأجهزة الأمنية القبض على كبار قيادات الإخوان بتهمة التآمر لاغتيال الرئيس وقلب نظام الحكم، ودخلت الجماعة في سمته بأزمة أو محنة 54 التي كانت مرتكزًا رئيسيًا لتجدد الصراع مع عبد الناصر في الستينات التي شهدت الحملة الكبرى ضد الجماعة بعد اكتشاف ما سُمي بتنظيم 1965.
وخلال سنوات الأزمة، توفي عبد الرحمن السندي في منزله بالقاهرة عن عمر ناهز 44 بسبب إصابته منذ صغره بمرض في القلب، ووصفه محمود الصباغ في كتاب «التصويب الأمين» بأنه مات وفيًا لأفكار الإخوان التي تربى عليها في كنف مؤسسها حسن البنا، بيد أن خصوم السندي كان لهم رأي آخر فوصموه بتهمة «الخيانة» والتحالف مع عدو الجماعة اللدود جمال عبد الناصر بل وألصقوا بهم تهم أخرى لم يتورط بها من الأساس، لتكون قصة السندي أكبر وأشهر عملية «اغتيال معنوي» تمت لقيادي إخواني تولى أهم منصب في الجماعة بعد مؤسسها.